إشراقة

بين نوعين من المُؤَسَّسَات والجمعيَّات

 

  

 

 

      المؤَسَّسَةُ أو الجماعةُ أو المدرسةُ أو الجامعةُ أو الهيئةُ أو الجمعيّةُ، قلَّما تَشُذُّ عن خَطِّ أفكارِ ومُعْتَقَدَاتِ ورُؤَى مُؤَسِّسها ووَاضِع منهجها الفكريّ في أيِّ عهد من عهود التأريخ. إنَّ روحَ مُؤَسِّسها الفكريّة وأفكارَه العقديَّة وأنماطَه القوليَّة والأدائيَّة تظلُّ تَتَجَاوَبُ أصداؤها في كلِ من رِحَابـِها ومُحِيط جُدْرَانها، رغمَ كلّ مُحَاوَلة قد تُبْذَل لتناسيها. تشهد بذلك دراسةُ التاريخ وتجربتي الشخصيَّة للحياة والناس. إنَّ خِلاَفَ ذلك ممكنٌ وقد يتحقَّق في عالَم الواقع؛ لكنّه نادرٌ جدًّا وشاذٌّ للغاية .

       فإنْ وُضِعَ أساسُها على الإخلاص والاحتساب والتجرُّد عن كلّ غرض، بَقِيَتْ سائرةً على خطِّه بشكل من الأشكال، مهما تَنَاوَبَ على إدارتها والقيام بشؤونها في فترات مختلفة أُنَاسٌ لا يأتون بحال على مستوى رافعي قواعدها الأوَّلين من الإخلاص والاحتساب وابتغاء رضوان الله وحده؛ لأنّ التحرُّق الصادق والتألم البالغ لحال الإنسان ووضع المُجْتَمَع البشريّ الذي كان يَتَّسِم به الرعيلُ الأوّل من المُؤَسِّسين والمسؤولين يجعلها بفضل من الله لاتنحرف عن مسارها الذي وَضَعُوها عليه. إنّ الإخلاصَ قيمةٌ يدوم أثرُها رغمَ مُنَاوَءَة الظروف ونُبُوِّ المُنَاخ وتَبَاعُد المسافة الزمانيَّة والمكانيَّة . وربما يحدثُ أن بعضَ من يَتَنَاوَبُون على إدارتها لايكونون فقط مُجَرَّدِين من الإخلاص، بل يكونون مُقَصِّرِين في العمل وقد يكونون مدخولين في عقيدتهم ودينهم، شاذِّين عن الخطّ المستقيم المرضيّ لدى أهل السنّة والجماعة، بل قد يكونون مسلمين بالاسم فقط ومحسوبين على الإسلام دونما حقٍّ؛ ولكن إخلاصَ المُؤَسِّس – أو المُؤَسِّسِين – وكونه فوقَ كلّ شبهة وكونه مرضيًّا لدى ربّه يمنع دون انحرافها عن المسار القويم والخطّ المستقيم، وذنوبُ المسؤولين عنها المُتَنَاوِبين على إدارة شؤونها لاتضرُّها وإنّما تضرُّ أصحابَها. الإخلاصُ وحدَه في هذه الدنيا الفانية قيمةٌ لاتفنى أبدًا وإنما تظلّ تُعْطِي مفعولها في كل فصل وطقس، وكلّ زمان ومكان، ولايحول دونها ودون فعلها عائقٌ من العوائق مهما كان كبيرًا قويًّا .

       وعلى العكس من ذلك إن وُضِعَ أساسُها على الرياء والدعاية والقول العريض وتَوَخِّي الأغراض العاجلة؛ فإنّها تَبْقَىٰ مُلاَزِمَةً لهذا الخطّ المنحرف والمسار الْمُعْوَجّ، مهما تَنَاوَبَ على إدراتها في بعض الفترات المسلمون الصادقون والمخلصون المُحْتَسِبُون؛ لأنّ ظلمةَ الرياءِ، والروحِ الدعائيّةِ، وحبِّ الذاتِ، والحرصِ على الأغراض الرخيصة، وكسبِ السمعة الواسعة، والرغبة في ترويجِ نوع خاصّ من الأفكار والمُعْتَقَدَات التي كان يتبنّاها المُؤَسِّس – أو المُؤَسِّسُون – تبقى عاملةً عَمَلَها رغمَ تباعد الأزمان؛ فتحول دون أيّ محاوله مُخْلَصَه تُبْذَل حثيثةً لتصحيح المسار، واستبدال الوِجْهَة وتغيير "القبلة". وربما يحدث أنَّ المحاولةَ هذه تنجح؛ ولكن النجاح لايدوم، وإنما يُصْبِح سحابةَ صيف عمّا قليل تنقشع؛ لأنّ الرياء وحبّ الدعاية للذّات، ظلمتُهما هي الأخرى ذات حضور دائم وظلّ قائم؛ فهي تفعل فعلَها في الحيلولة دون كل خير يريد أن يفرضَ نفسَه في مكان أو زمان. إنّهاإرادة الله، وسنّتُه التي لاتتغيّر؛ فالإخلاصُ دائمُ الحضور في جلب الخير، والرياء دائم الحضور في جلب الشرِّ ودفع الخير.

       بمُجَرَّد دخولك محيطَ مُؤَسَّسة أو هيئة أو جماعة أو دارِ علم تستطيع أن تشمَّ رائحةً كريهةً من الرياء والرغبة في الدعاية أو الانحراف العقديّ أو الشذوذ الفكريّ الذي كان يتّصف به مُؤَسِّسها – أو مُؤَسِّسُوها – تنبعث من كلِّ ناحية من نواحي مبانيها؛ بل كلِّ ذرَّة من تراب أرضها، وكلِّ طُوْبَة من طُوْبِها، وكلِّ شيء في محيطها، وكلِّ شخص من أشخاصها الذين يعملون فيها، وينتسبون إليها، ويصدرون عن منهجها الفكريّ ونَمَطِها العقديّ .. أو أن تشمّ رائحةً زكيّةً من الإخلاص ونسيان الذات وطلب الأجر من الله، تفوح في كلِّ مكان، وتتفجّر من كلِّ ناحية، تلمسها في كل إنسان تلتقيه داخل محيطها، وتتحسّسها في كل جزء من أجزاء أرضها وجوّها؛ فتشعر بلذّه لاتستطيع أن تصفها، وتُحِسُّ راحةً عجيبة وفرحةً غريبة غير قابلتين للوصف. التجرّدُ من الأغراض يُعَانِقُك وأنت تسير بين جنباتها، ويُقَابـِلُك وأنت تتحادث مع أحد، وجيشٌ من الصفاء والروحانيَّة يستقبلك على كل خطوة. وقد تريد أن تُعَبِّر عن هذه الكيفيّة العزيزة، فلا تجد الألفاظَ اللائقةَ تُطَاوِعُك.

       المُؤسَّسةُ أوالجمعيَّةُ أو الهيئةُ أو دارُالعلم أو المُنَظَّمَةُ أو الحركةُ الموضوعُ أساسُها على التقوى من أوّل يوم، تظلّ روحُ الاستقامة على الخطّ المستقيم تسري بنحو من الأنحاء فيها عَبْرَ العصور المُتَلاَحِقَة ما دامت هي – المُؤَسَّسَةُ أو غيرُها – قائمةً، ولاتخلو منها أبدًا. النيَّةُ الحسنةُ: نيّةُ المعروف والخير، لها فعلُ السحرِ، والقوَّةُ الخارقةُ، والثباتُ الدائم ثباتَ الخير والمعروف؛ فالأعمالُ التي يصدر عنها تَتَأَلَّق تَأَلُّقَ النجوم، وتزكو زكاءَ الأريج، وتفوح فوحَ المسك، وتعمّ دونما دعاية مقصودة، أو إعلام مُتَعَمَّد، وتنطق بنفسها، فيسمعها كلُّ زمان، ويشهدها كلُّ مكان.

       أمّا التي تَتَأَسَّس على غير التقوى وغير قصد الله؛ فإنّها تنحرف دائمًا يمينًا وشمالاً، وتَتَأرْجَحُ بين الحقّ والباطل، وتقبل كلَّ وافد دخيل مهما تَعَارَضَ مع حقائق العقيدة، وثوابت الدين، ويقينيّات الكتاب والسنّة؛ فكلُّ شيءٍ لامعٍ جيِّدٌ ومقبولٌ عندها، وكلُّ أصفرَ عندها ذهبٌ؛ لأنّ سوءَ القصد والنيَّةَ المُغْرِضَة وابتغاءَ غير الله تجعلها لاتتمسّك بالمبادئ، ولاتثبت على شيء مُحَدَّد. والمبدأُ عندها ما يبني الدنيا، ويُحَقّق المكاسبَ العاجلة، ويُعَجِّل الأرباحَ الرخيصةَ التي كانت مقصودةً لدى مُؤَسِّسها أو مُؤَسِّسيها.

       مثلُ هذه المُنَظَّمَة أو المُؤَسَّسَة أو غيرهما قد تتضخّم وتتوسّع في الظاهر أكثر من نظيرتها المبنيّة على الإخلاص والتقوى؛ ولكنها تكون جسدًا بلاروح لدى كل ناظر لديه حسٌّ دينيّ ووعيٌ إسلاميّ صحيح؛ لأنّ الأشياءَ ربّما لاتُقَيَّم بظاهرها وإنّما تُقَيَّم بباطنها والمعنويَّة التي تُعْلِي شأنَها لدى الله ولدى خلقه.

       بعضَ الأحيان نرى مُؤَسَّسَةً أو مُنَظَّمَةً تكسب لمعانًا ظاهرًا قد لايكسبه غيرُهما، وتتوسَّع وتتضخَّم بشكل لايُتَاحُ لغيرهما؛ ولكنّها لاتتمتَّع بشعبيَّة وإعجاب وقبول لدى الخلق تتمتَّع بها نظيرتُها التي أُسِّسَتْ على الاخلاص والتقوى؛ لأنّ القبول يُضْفِيه اللهُ من عنده على كلِّ شيء يُصْنَع ابتغاءً لوجهه وقصدًا لرضاه. وذك شيءٌ ليس بمقدور الخلق، ولايمكن شراؤه بثمن مهما كان باهظاً. ولو كان كذلك لانتصر كلُّ مُرَاءٍ مخادع محتال في هذه الدنيا على كلِّ مخلص ساذج بسيط لايعرف المكرَ والتعاملَ بالازدواجيّة.

       قد شاءَ اللهُ لحكمة يعلمها ولانعلمها – ولن نعلمها – نحن البشر أن يجعل الإخلاصَ المقياسَ الأصيلَ الدقيق الذي لايُخْطِئ أبدًا بين ما صُنِعَ له – تعالى – وبين مالم يُصْنَعْ له. ولولا ذلك لادَّعى كلُّ دَعِيّ أَنّه هو الأحسنُ عملاً والأكثر فضلاً والأحقُّ أجرًا؛ ولكن هذا المقياسَ الأمينَ هو الذي ينطق بمن هو الأحقُّ أجرًا والأحسنُ عملاً؛ لأنَّ مُرَائِيًا لايقدر أن يخادعه ويَتَخَطَّى عمليّةَ تقييمه .

       إنَّ نورَ الجمال المعنويّ يعلو كلَّ مُؤَسَّسَة أو جمعيَّة أُسِّسَتْ على التقوى من الله، يسطع من بُعد، ويَتَوَضَّأ من الداخل، فيلفّ جميعَ كيانَها، فيشعر كلُّ زائر لها ببركة تُلاَمِسُه؛ ولكنه لايقدر على التعبير عنها بكل ما لديه من كلمات التعبير ولغة البيان. وذلك هو حالُ كل عمل مصدرُه الإخلاصُ والاحتسابُ، له سنا البركة وسناءُ – علوّ – الروحانيَّة وعظمةُ المحبوبيَّة .

       أمّا غيرُها من المُؤَسَّسَات والمُنَظَّمَات وغيرها، المبنيَّة على الأهواء والأغراض والنفسانيَّة؛ فإنّها رغمَ جمالها البرّاق وزينتها الظاهـرة، لاتجذب سليمَ الطبع من الخلق، ومستقيم الدين من الناس، وصحيحَ العقيدة من المسلمن، وإنما تجعله يكرهها ويزهد فيها، مهما أُعْمِلَتِ الدعايةُ، وبُذِلَتِ الأموال على الإعلان عنها والتطبيل لها. وإن انخدعَ بها بعضُ السذَّج من النّاس بعضَ الأحيان، فإنَّهم سرعانَ ما يسحبون إعجابَهم منها عندما يعلمون حقيقتَها، وينتبهون لباطنها.

       كلُّ شيء يدوم ويثبت ويعمّ عفويًّا ويشتهر ذاتيًّا إذا بُنِي على الإخلاص، وكلُّ شيء يزول ويمحّي، وينكمش ويخمل، بشكل عفويّ، إذا كان رصيده الرياء. حقيقةٌ يجب أن نستحضرها لدى كل خطوة نخطوها في الدنيا التي هي دار العمل، ولاسيّما إذا كانت الخطوةُ هامَّةً أريد من ورائها النفعُ العامُّ، حتى نضمن لها البقاءَ والاستمرارَ والدوامَ والعمومَ دونما كُلْفَة منّا.

       ومهما كانت الحال فإنّه من المُجَرَّب المشهود له من سند التاريخ أنّ المؤسسات والجمعيَّات ونحوها تبقى قائمةً على الأسس التي قامت عليها من قِبَل مُؤَسِّسيها وتظلّ مُنْصَبِغَةً بأفكارهم وعاداتهم وأنماط حياتهم، إن كان خيـرًا فخير وإن كان شرًّا فشرٌّ. وقد تتخلّل عهودَ تاريخها فتراتٌ ربما تشذُّ قليلاً أو كثيرًا عن مسار مُعْتَقَدَاتهم؛ ولكنّها لاتطول فضلاً عن أن تدوم إلاّ نادرًا.  ( تحريرًا في الساعة 4:30  من مساء يوم الأحد: 23/7/ 1429هـ = 27/7/2008م )

 

أبو أسامة نور

 

 

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال  1429هـ = سبتمبر – أكتوبر  2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32